فصل: مسألة تفسير قول الله تعالى وَلْيُوفوا نُذُورَهُم:

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: البيان والتحصيل والشرح والتوجيه والتعليل لمسائل المستخرجة



.مسألة تفسير قول الله تعالى وَلْيُوفوا نُذُورَهُم:

في تفسير قول الله تعالى:
{وَلْيُوفُوا نُذُورَهُمْ} [الحج: 29] وسئل مالك عن تفسير قول الله: {وَلْيُوفُوا نُذُورَهُمْ} [الحج: 29] قال هو رميُ الجمار. من كلام العرب أن يسمعوا العقل النذر، يريدون بذلك العدد.
قال محمد بن رشد: إِنما تأول مالك إِن مراد الله بقوله تعالى: {وَلْيُوفُوا نُذُورَهُمْ} [الحج: 29] هو رمي الجمار، من أجل أن الوفاء بالشيء لا يكون إلا بإِكماله إلى آخره. ورمي الجمار هو آخر عمل الحج مع الطواف الذي ذكره الله معه فقال: {وَلْيَطَّوَّفُوا بِالْبَيْتِ الْعَتِيقِ} [الحج: 29] واستدل على ذلك بأن العرب تسمي العقل نذرا. وهو العدد الذي يجب في الجراح. يريد فكذلك رمي الجمار، سماه الله نذراً، لأنه عددٌ واجب رميه في الحج.
وقد مضى في هذا الرسم من هذا السماع من كتاب الحج لتكرار المسألة هناك. وبالله التوفيق.

.مسألة تفسير قوله عز وجل سَوَاءٌ الْعَاكِفُ فِيهِ وَالْبَادِ:

في تفسير قوله عز وجل:
{سَوَاءً الْعَاكِفُ فِيهِ وَالْبَادِ} [الحج: 25] وسئل مالك عن هذه الآية: {سَوَاءً الْعَاكِفُ فِيهِ وَالْبَادِ} [الحج: 25] قال: سواء في الحق والسعة. والباد: أهل البادية وغيرهم ممن يقدم عليهم. وكانت الفساطيط تضرب في الدور. ولقد سمعت أن عمر بن الخطاب كان ينزع أبواب مكة إذا قدم الناس.
قال محمد بن رشد: تأويل مالك لهذه الآية، على أن حق أهل مكة وغيرهم ممن يقدم عليهم من الناس في دور مكة، سواءٌ. واستدلاله على ذلك بما ذكر بأن عمر بن الخطاب كان ينزع أبواب مكة إذا قدم الحاج يدل على أنها لا تباع ولا تكرى، خلاف ظاهر أقوال ابن القاسم في كتاب كراء الأرضين، وكتاب الحوائج من المدونة ولما ذكر فيهما من نفاق كراء الدور بها في أيام الموسم.
وليس في الآية بيان يرفع العذر، لاحتمال رجوع الضمير من قوله تعالى: {سَوَاءً الْعَاكِفُ فِيهِ وَالْبَادِ} [الحج: 25] على المسجد المذكور، دون سائر البلاد. على ما قاله جماعة المفسرين. والأصل في اختلاف أهل العلم في هذه المسألة خلافهم في افتتاح مكة في ذهب إلى أنها افتتحت عنوة. قال: إن دورها لا تباع ولا تكرى. وهو قول أبي حنيفة وجماعة سواء ويشهد لهذا القول ما روي من أن رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وسلم قال: «مَكَّة كُلُّها مُبَاح لا تُبَاعُ وَلا تُؤَاجَرُ» ومن ذهب إلى أنها مؤمَّنة. والأمان كالصلح، وأن أهلها مالكون لرباعها. وأجاز لهم بيعها وكراءها. وهو قول الشافعي. ولا خلاف عند مالك وأصحابه في أنها افتتحت عنوة. إلا أنهم اختلفوا، هل من بها على أهلها فلم تقسم كما لم يُسبَ أهلُها لما عظم الله من حرمتها؟ أو هل أقرت للمسلمين؟. فعلى هذا جاء الاختلاف في جواز كرائها في المذهب، فروي عن مالك في ذلك ثلاثة روايات: إحداها المنع. والثانية الِإباحة. والثالثة كراهية كرائها في الموسم خاصة.
وقد مضى هذا كله في هذا الرسم من هذا السماع من كتاب الحج لتكرر المسألة هناك.

.مسألة حرق ما التبس من كتب الخصوم:

في استحسان حرق ما التبس من كتب الخصوم قال مالك: وقد كان قاض في زمن عثمان وأنه رُفع إليه كتب قد تقادم أمرها والتبس الشأن فيَها، فأخذها فأحرقها بالنار. فقيل لمالك: فَحَسَنٌ ذلك، قال: نعم. هذه الأمور لا أرى ما هي.
قال محمد بن رشد: معنى هذه الكتب إنها كتب في الخصومات، طالت المحاضر فيها والدعاوي، وطالت الخصومات حتى التبس أمرها على الحكام، فإذا احرقت قيل لهم: بينوا الآن ما تدعون، ودعوا ما تلبسون به من طول خصوماتكم، ووثقوا العمل علي وهو حسن من الحكم على ما استحسنه مالك.
وقد مضى هذا في الرسم من هذا السماع من كتاب الحج لتكرر المسألة هناك.
وإنما أمر بحرق الكتب، ولم يأمر بخرقها وتمزيقها، صيانة لما وقع من أسماء الله فيها كما فعل عثمان بالصحف، إِذ جمع القرآن. وبالله التوفيق.

.مسألة بيان رسول الله صلى الله عليه وسلم لما أجمله الله في القرآن والصلاة والزكاة:

في بيان رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لما أجمله الله في القرآن والصلاة والزكاة قال مالك: الحج كله في كتاب الله تعالى والصلاة والزكاة ليس لهما في كتاب الله تفسير. ورسول الله صلى الله عليه وسلم بيَّن ذلك.
قال محمد بن رشد: ظاهر قول مالك هذا إن الحج كله في كتاب الله تعالى مفسر، وإن الصلاة والزكاة ليستا مفسرتيْن فيه، وأن النبي عَلَيْهِ السَّلَامُ فسرهما وليس ذلك بصحيح، بل ما أتى في القرآن من ذكر الحج مفتقراً إلى التفسير والبيان الذي فسرهُ به رسول الله وبين مراد الله تعالى فيه قولاً وعملًا، كافتقار الصلاة والزكاة إلى ذلك سواء، ولو تركنا وظاهر ما في القرآن من أمر الحج لما صح لنا منه امتثال أمر الله تعالى به، إذ لم يبين فيه شيئاً من صفة عمله وترتيبه في أوقاته التي لا يصح إلا فيها، وشرائطه التي لا يتم إلا بها وسنته التي لا يكمل إِلّا بها، فليس الكلام على ظاهره، وإنما معناه الذي أراده به أن الحج كله في كتاب الله تبارك وتعالى، والصلاة والزكاة، تََم الكلام هاهنا، ثم ابتدأ فقال ليس لها أي لجميع ذلك في كتاب الله تفسير.
ورسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بين ذلك، ويبين تأويلنا هذا ما في كتاب محمد بن المواز من قوله: وكذلك الحج والزكاة ونزل وجوبهما في القرآن مجملاً، وبين رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ما أراد منه وفسره وبينه. وقوله في الرواية أيضاً ليس لها ولم يقل لهما، وقد نقل ابن أبي زيد هذه الرواية بالمعنى على ظاهرها نقلا غير صحيح فقال فيها: الحج كله في كتاب الله تعالى. وأما الصلاة والزكاة فذلك مجمل فيه ولهذا وشبهه رأى الفقهاء قراءة الأصول أولى من قراءة المختصرات والفروع. وقد تقدم هذا كله في هذا الرسم من هذا السماع لتكرر المسألة هناك.

.مسألة الركوع بعد صلاة الجمعة:

في الركوع بعد صلاة الجمعة قال مالك: ليس من السنة أن يركع الِإمام بعد الجمعة في المسجد وأما غيره فليركع إن شاء.
قال الإمام القاضي: إنما قال مالك: ليس من السنة أن يركع الِإمام بعد الجمعة في المسجد لما بلغه من «أن رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كان إذا صلى الجمعة انصرف ولم يركع في المسجد، وإذا دَخل بيته ركع ركعتين» وقع له ذلك في المدونة قال فيها: وينبغي للإِمام اليوم إذا صلى الجمعة أن يداخل منزله ويركع ركعتين، ولا يركع في المسجد.
وقال في هذه الرواية فيمن عدى الِإمام: إنه يركع إن شاء، فظاهر قوله فيها إباحة الركوع له دون كراهة، خلاف ما في المدونة من كراهة ذلك له، لأنه قال في كتاب الصلاة الأول منها: أنه لا يتنقل في المسجد، لكراهة ذلك بدليل قوله في كتاب الصلاة الثاني منها: أحب إلي أن ينصرف ولا يركع في المسجد. قال: وإِن ركع فواسع، لأنه إذا استحب ترك الركوع، فقد كره الركوع.
وقوله: وإن ركع فواسع، يريد: إِنه لا إِثم عليه ولا حرج إن فعل، فعلى ما في المدونة. إِن صلى أجر في صلاته، وإن قعد ولم يصل أجر في قعوده، لأن حد المكروه ما في تركه ثواب، كما أن حد المندوب ما في فعله ثواب.
وعلى ما في هذه الرواية، إِن صلى أجر في صلاته، وإن قعد ولم يصل لم يؤجر في قعوده. وقد كان من أدركنا من الشيوخ يحملون ما في كتاب الصلاة الأول من المدونة على ما في كتاب الصلاة الثاني منها، ويقولون: قوله: وإن ركع فواسع، يدل على أنه لم يكره له الركوع مثل ظاهر هذه الرواية، وليس ذلك بصحيح، لما بيناه من أنه إذا استحب ترك الركوع فقد كره الركوع. وذهب الطحاوي إلى أنه يجوز أن يتنفل بعد الجمعة في المسجد أربعاً ولا ينتفل بعدها ركعتين، وينتفل ركعتين في بيته بعد صلاة الجمعة على تصحيح أحاديث رواها في ذلك.

.مسألة إمامة الأعمى:

في إمامة الأعمى وسئل عن الأعمى يؤُم الناس، قال: نعم قد أمّ على عهد رسول اللَّه صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أعمى.
قال محمد بن رشد: مثل هذا في قوله الأول من كتاب الصلاة من المدونة قال: لا بأس أن يُتخذ الأعمى إماماً. وقد أمّ على عهد رسول اللَّه صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وهو أعمى ابن مكتوم، وإنما لم ير مالك في ذلك بأساً، من أجل أن حاسة البصر لا تعلق لها بشيء من فرائض الصلاة، ولا بسنتها ولا بفضائلها، بل ربما كان بصره سبباً لاشتغاله عن الِإقبال عليها. فقد جاء «أن رسول اللَّه صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ جُعل في نعليه شِراكان جديدان، فأمر أن يُنزعا وترد فيهما الحلقتان اللتان كانتا فيهما. قيل: لِمَ يا رسول اللَّه؟ قالَ: إنِّي نظرت إليهما في الصلاة». وصلى صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ في خَمِيصَةٍ شَامِيةٍ، لَهَا عَلَمٌ، فَلَمَا انْصَرَفَ مِنْ الصلَاةِ رَدَّهَا إِلَى مُهْدِيهَا إِلَيْهِ أبي جهْم وَقَالَ: «إِنِّي نَظَرْتُ إِلَى عَلَمِهَا فِي الصَّلاَةِ فَكَادَ يَفْتِننُي». وإذا خشي النبي عَلَيْهِ السَّلَامُ الفتنة في صلاته بالنظر فيها؟ إلى ما يروق منظره، فغيره بذلك أولى. ولهذا المعنى كره العلماء تزويق المساجد. وكذلك سائر الحواس الخمس، لا تعلق لها بشيء من الصلاة حاشى السمع، فإِن الأصم لا ينبغي أن يُتخذ إماماً راتباً، لأنه قد يسهو فيسبح له، فلا يسمع، فيكون ذلك سبباً لِإفساد الصلاة.
وإنما كره أن يتخذ الأعمى إماما راتباً مَن كرهه. واللَّه أعلم. من أجل أنه قد يتوضأ بماءٍ غير طاهر، يصلي بثوب نجس، وهو لا يعلم، إذ لا يبصر النجاسة، ولا تغير لون الماء، وأما نقصان الجوارح كاليد والرجل فلهما تعلق بالصلاة، ولذلك اختلف في إمامة الأشل، والأقطع، وقد مضى الكلام على هذا في سماع زونان من كتاب الصلاة.

.مسألة الحض على الصدق وما جاء فيه:

في الحض على الصدق وما جاء فيه قال: وسمعت مالكاً يقول: قال عمر بن الخطاب: عليك بالصدق ولو ظننت أنه مُهلك.
قال محمد بن رشد: قوله: وإن ظننت أنه مهلك. معناه: وإن خشيت ذلك، ما لم تتيقنه، لأن الظن قد يكون بمعنى الشك، وبمعنى اليقين، وذلك لما يلزم الرجل أن يصدع فيه بالحق، لما يرجو في الصدق من الصلاح، ويخاف في الكذب من الفساد، كالكلام عند السلطان وشبه ذلك، فهذا الذي ينبغي فيه الصدق، وإن ظن أن في ذلك هلاكه، ما لم يتيقن الهلاك في الصدق فيه فيسعُه السكوت عليه. ولا يحل له الكذب فيه، إِلَا أن يضطر إلى ذلك بالخوف على نفسه، وإنما يلزمه الصدق وإن خاف على نفسه فيما عليه من الحقوق، كالقتل والسرقة والزنا. وشبه ذلك. والكذب ينقسم على أربعة أقسام: كذب لا يتعلق فيه حق لمخلوق، وهو الكذب فيما لا مضرة فيه، ولا يقصد به وجهاً من وجوه الخير، وهو قول الرجل في حديثه كان كذا وكذا، وجرى كذا وكذا، لِما لم يكن ولا جرى، فهذا الكذب محرم في الشريعة بإجماع العلماء، وهو الذي جاء فيه عن النبي عليه السلام: إن الْمُؤْمِنَ الممدُوحَ إيمَانُه لَا يَكُونُ كَذَّاباً وهو الذي يغلب عليه. الكذب حتى يعرف وقد كان جباناً وبَخِيلاً. وعن ابن مسعود: إنهُ لَا يَزالُ الْعَبْدُ يَكْذِبُ وَتُنْكَثُ في قلبه نُكْثَةٌ سَوْدَاءُ حًتّى يَسْوَدً قَلْبُه فَيُكْتَبَ عِنْدَ اللَّهِ مِن الْكَذَّابينَ. والتوبة منه بالإِقلاع عنه والاستغفار منه. وكذب يتعلق به حق لمخلوق، وهو أَن يكذب الرجل على الرجل، فينسب إليه أنه فعل ما لم يفعل، أو قال ما لم يقل، وهو أشد من الأول، لأن التوبة منه لا تصح، إلا أن يحلله صاحبه، أو يأخذ حقه منه. وكذب فيما لا مضرة فيه على أحد، ويُقصد به وجه من وجوه الخير، وهو الكذب في الحرب والِإصلاح بين الناس وكذب الرجل لامرأته فيما يَعِدُها ليستصلحها، فهذا كله جوزته السنة.
وقيل: إنه لا يباح فيه إلا معاريض الكلام، لا النص بالكذب. والأول أصح، لأن التصريح بالكذب في ذلك جائز، يدل عليه قوله عز وجل حكاية عن إبراهيم: {بَلْ فَعَلَهُ كَبِيرُهُمْ هَذَا} [الأنبياء: 63] وقوله في قصة يوسف: {فَلَمَّا جَهَّزَهُمْ بِجَهَازِهِمْ جَعَلَ السِّقَايَةَ فِي رَحْلِ أَخِيهِ ثُمَّ أَذَّنَ مُؤَذِّنٌ أَيَّتُهَا الْعِيرُ إِنَّكُمْ لَسَارِقُونَ} [يوسف: 70] إلى قوله: {كَذَلِكَ كِدْنَا لِيُوسُفَ} [يوسف: 76] وقد قيل: إن معاريض القول جائزة في كل موضع، لما جاء عن بعض السلف إن فيها مندوحة عن الكذب، والذي أقولُ به: إن ذلك مكروه، لما فيه من الألغاز على المخاطب، فيظن أنه قد كذبه، فيعرض نفسه بذلك إلى أن ينسب إليه الكذب، فتركه أحسن، وكذبه في دفع مظلمة عن أحد، مثل أن يختفي رجل عنده ممن يريد قتله أو ضربه، فيسأل هل هو عنده أو يعلم مستقره؟ فيقول: ما هو عندي ولا أعلم مستقره. فهذا الكذب واجب، لما فيه من حقن دم الرجل، أو الدفع عن بشرته. وباللَّه التوفيق.

.مسألة حكم دخول الأسواق:

في جواز دخول الأسواق وكراهية ترديد اليمين قال: وسمعت مالكاً يذكر، قال: كان ابن عمر ربما أتى السوق وجلس فيه،، وأنه قعد يوماً ورجل يبيع شيئاً، وهو يحلف ويردد، وابن عمر يَسمعه. فقال له: اتق اللَّه، ونهاه، فإن هذه سبعون يمينا. فقال: لا واللَّه رداً على ابن عمر فقال: هذه إحدى وسبعون.
قال محمد بن رشد: أما دخول الأسواق والجلوس فيها فلا اختلاف أن ذلك مباح غير محظور، ولا مكروه. وكفى من الدليل على ذلك، قَوْله تَعَالَى: {وَمَا أَرْسَلْنَا قَبْلَكَ مِنَ الْمُرْسَلِينَ إِلا إِنَّهُمْ لَيَأْكُلُونَ الطَّعَامَ وَيَمْشُونَ فِي الأَسْوَاقِ} [الفرقان: 20] رداً لقول المشركين: {مَالِ هَذَا الرَّسُولِ يَأْكُلُ الطَّعَامَ وَيَمْشِي فِي الأَسْوَاقِ} [الفرقان: 7] الآية وإنما نهى ابن عمر الرجل عن ترْدِيد الأيمان ووعظه في ذلك، لأن من ردد الأَيمان وأكثر منها لم يسلم من مواقعة الحِنث فيها والتقصير في الكفارة، وأن يحلف على ما لم يفعله يقيناً فيأثم في ذلك كله.
وأما حلف الرجل على شيء أن لا يفعله فلا كراهية في ذلك، لأن اللَّه أمر نبيه عَلَيْهِ السَّلَامُ بالحلف باسمه في غير ما آية فقال: {قُلْ إِي وَرَبِّي} [يونس: 53] وقال: {بَلَى وَرَبِّي لَتُبْعَثُنَّ} [التغابن: 7]، وكان رسول اللَّه صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كثيراً ما يحلف لَا وَالَّذِي نَفْسِي بِيَدِهِ، وَلَا وَمُقَلِّبِ الْقُلُوبِ فلا وجه لكراهية ذلك، لأن القصد إلى الحلف بالشيء تعظيم له، فلا شك في أن في ذكر اللَّه عز وجل على وجه التعظيم له أجراً عظيماً.
وقد مضى هذا المعنى في آخر رسم الجنائز والذَّبائح والنذور، من سماع أشهب من كتاب النذور في تكلمنا على ما وقع هناك من أن عيسى بن دينار كان يقول: يا بني إسرائيل، إن موسى كان ينهاكم أن تحلفوا باللَّه إِلاَ وأنتم صادقون ألا وإني أنهاكم أن تحلفوا باللَّه كاذبين أو صادقين واللَّه أعلم.

.مسألة تعجيل ما اجتمع عند العامل من زكاة الفطر:

في الأمر بتعجيل ما اجتمع عند العامل من زكاة الفطر قال مالك: بلغني أن عاملًا لعمر بن عبد العزيز كتب إليه يخبره أنه اجتمع عنده من زكاة الفطر شيء كثير، وأن ذلك لما رجوا من عدل أمير المؤمنين فكتب إليه عمر إنهمِ لم يخبروني وإياك كما رجوا، فإذا جاءك كتابي هذا فإن جاءك ليلا فإن استطعت ألا تصبح حتى تقسمه فافعل، وأي شيء رأيي فيه حين تكتب إلي فيه؟ قال سحنون: يقال: إنه عثمان.
قال محمد بن رشد: وقعت هذه الحكاية في كتاب زكاة العين في رسم الرطب باليابس من هذا السماع على خلاف ما وقعت هاهنا إذ لم يذكر هناك كون الزكاة مجتمعة عند العامل من زكاة الفطر ونص الرواية هناك قال: وسمعت مالكاً يذكر أن عاملاً لعمر بن عبد العزيز كتب إليه إن الناس قد أسرعوا في أداء الزكاة فرغبوا في ذلك لموضع عدلك، وأنه قد اجتمعت عندي زكاة كثيرة فكأن عمر كره ذلك من كتابه لمدحه، فكتب إليه: ما وجدوني وإياك على ما رجوا وظنوا، فاقسمها. قال ابن القاسم: وقال عمر: وأيُّ رأيٍ لي فيها حين تكتب إلي؟ وهذا أصح مما وقع هاهنا لأن زكاة الفطر، الحكم فيها أن تجمع قبل يوم الفطر فتفرق يوم الفطر. لقول النبي عَلَيْهِ السَّلَامُ: «أغْنُوهُم عَنْ طَوَافِ هَذَا الْيَوْم». فلو كان المجتمِع عنده من زكاة الفطر نبه عمر على تأخير تفريقها عن يوم الفطر وأما سائر الزكوات فلا حد في وقت تفريقها إلَّا أن الواجب فيما اجتمع فيها تعجيل تفريقها على ما أمر به عمر بن عبد العزيز وباللَّه التوفيق.

.مسألة الِإقبال على الذكر والتسبيحِ في الصلاة:

في الِإقبال على الذكر والتسبيحِ في الصلاة قال مالك: كان عبد اللَّه بن عتبة بن مسعود وعامر بن عبد اللَّه، لا ينصرفان من صلاتهما لأحد يجلس إليهما قلت له: أفيحسب ذلك له؟ قال: نعم إِلا أن يأتيه الرجل إلى الحاجة الخفيفة، تكون به إليه أو الرجل يسأله عن المسألة تنزل به، فهذا، وما أشبهه أرى أن ينصرف فيه. وأما غيره فلا.
قال محمد بن رشد: إنما كانا يفعلان ذلك، لما جاء عن النبي عَلَيْهِ السَّلَامُ أنه قال: «مَنْ سَبحَ دُبُرَ كُلِّ صَلاَةٍ ثَلَاثاً وَثَلَاثِينَ، وَكَبرَ ثَلَاثاً وَثَلاَثِين، وَحَمِدَ ثَلَاثاً وَثًلاَثِينَ، وَكمّلَ الْمِائَةَ بِلاَ إِلَهَ إِلَا اللَّهُ وَحْدَهُ لَا شَرِيكَ لَهُ، غفِرتْ ذُنُوبُهُ وَلَوْ كَانَتْ مِثْلَ زَبَدِ الْبَحْرِ-»، ولما يُرجى من قبول الدعاء، عند خاتمة الصلاة، فهو حسن من الفعل، والاقتداء بهما في ذلك خير. وبالله التوفيق.

.مسألة يقول للرجل في منازعة ما يشبه أن يريد به القذف:

في الذي يقول للرجل في منازعة ما يشبه أن يريد به القذف وسئل عن رجل كانت بينه وبين رجل محاورة فقال: واللَّه لأجلدنك حدين. أترى هذا فرية؟ قال: أرى أن يحلف بالله ما أردت فرية وما أردت إلا كذباً، فإن حلف قال: رأيت أن يؤدب له.
قال محمد بن رشد: قال: إنه إن حلف أدب، وهو صحيح، لأنه سب يشبه أن يكون أراد به القذف. فإن حلف أنه لم يرد القذف، لم يسقط عنه الأدب الذي يجب عليه في السب، ولم يقل إن نكل عن اليمين: ما يكون الحكم فيه، والحكم في ذلك أن يسجن حتى يحلف، واختلف إن طال سجنه ولم يحلف فقيل إنه يؤدب ولا يحد، يريد أدَباً فوق الأدب الذي يؤدب إذا حلف وهو مذهب ابن القاسم. وقيل إنه يحد إذا طال سجنه ولا يحلف.
وقد مضى هذا المعنى في رسم الحدود من سماع أصبغ من كتاب الحدود في القذف وفي غير ما موضع واللَّه الموفق.

.مسألة ما جاء عن صفوان بن أمية في تأليف النبي عليه السلام إياه بالعطاء:

ما جاء عن صفوان بن أمية في تأليف النبي عَلَيْهِ السَّلَامُ إياه بالعطاء قال مالك: بلغني «أن صفوان بن أمية وكان من المؤلفة قلوبهم وكان شريفاً. قال: لقد حضرت حُنْيْنا مع رسول اللَّه صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وما أحد من الخلق أبغضَ إلي منه. فما زال يعطيني حتى ما كان أحد من الخلق أحب إِلي منه».
قال محمد بن رشد: في هذا بيان موضع العطاء والإِحسان من النفس، وما له فيه من التأثير، ولعلم اللَّه عز وجل بذلك جعل للمؤلفة قلوبهم سهماً من الصدقة، ليسلموا فيسلم بإسلامهم مَن وراءهم. واختلف في الوقت الذي بُدئ فيه بائتلافهم، فقيل: قبل أن يسلموا لكي يسلموا، وقيل: بعد ما أسلموا كي يحبب إليهم الِإيمان، فكانوا على ذلك إلى صدرٍ من خلافة أبي بكر الصديق، وقيل إلى صدر من خلافة عمر، ثم قال لأبي سفيان: قدْ أغْنَى اللهُ عنكَ وعن ضرَبَائِك. إنما أنت رجل من المسلمين. وقطع ذلك عنهم. واختلف هل يعود ذلك إليهم إن احتيج إليه أم لا يعود إليه؟ فرأى مالك أنه لا يعود. وهو مذهب أهل الكوفة. وقيل: إنه يعود إن احتيج إليه ورأى ذلك الِإمام وهو قول ابن شهاب وعمر بن عبد العزيز وإليه ذهب الشافعي والله أعلم.

.مسألة التوقي في الحديث عن النبي عليه السلام:

في التوقي في الحديث عن النبي عَلَيْهِ السَّلَامُ قال مالك: بلغني أن عمر بن الخطاب شيع قوماً خارجين إلى العراق، فقال لهم خيرا، ثم أوصاهم بما أوصاهم به، وقال لهم: أقلوا الحديثَ عن رسول اللَّه صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وأنا شريككم في ذلك في الأجر، قال: لا ولكن أنا أفعل ذلك أنا أقل الحديث عن النبي عَلَيْهِ السَّلَامُ.
قال محمد بن رشد: المعنى عندي فيما أمر به عمر بن الخطاب في إقلال الحديث عن النبي عَلَيْهِ السَّلَامُ مع أمره صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بالتبليغ عنه وقوله: «لِيُبَلِّغ الشَّاهِد الْغَائِبَ» وقوله: «بَلِّغوا عَنِّي وَلوْ آيَةً» هو أنه لما كان للصاحب أن يقول: قال رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كذا وكذا لِما لم يسمعه منه، وإنما حدثه به غيره من الصحابة، فكان بمنزلة ما سمعه منه، من أجل أن الجرحة مرتفعة عنهم، خشي أن يكون الذي سمع الحديث من النبي عَلَيْهِ السَّلَامُ قد نقله إلى غيره من الصحابة على المعنى، ولا يستوي جميعهم في ذلك، لتباينهم في العلم، فأمر ألا يحدث الصاحب بالحديث الذي لم يسمعه من النبي عَلَيْهِ السَّلَامُ إِلا أن يكون الذي حدثه به عن النبي عَلَيْهِ السَّلَامُ من فقهاء الصحابة، مخافة أن يكون نقله على المعنى الذي عنده، وليس كما ظنه. وفي الاحتياط في الانتقاء في ذلك بالاجتهاد تقليل الحديث عن النبي عَلَيْهِ السَّلَامُ كما أمر به عمر رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ، وإذا شاركهم في إقلال الحديث، فقد شاركهم في الأجر على ذلك وباللِّه التوفيق.

.مسألة معاقبة من لم يشهد الجمعة والمنع من البيع في يوم الجمعة:

في معاقبة من لم يشهد الجمعة والمنع من البيع في يوم الجمعة وسئل مالك عن إمام بلد يأمر إذا فُرغ من صلاة الجمعة من يخرج، فمن وجد لم يحضر الجمعة، ربطه بعمد المسجد، فأنكر ذلك، ورأى أنه قد أخطأ، فقيل له: أفَيُمنعُ السوق قبل الأذان يوم الجمعة؟ قال: لا قد قال ذلك الرجل الصالح، حين جاء ولم يغتسل كنت في السوق، فأنت تعلم أن الأسواق قائمة على عهد عمر بن الخطاب، ورأى أنه أخطأ حين جاء إلى الجمعة ولم يغتسل، فإنما ذهب إلى السوق في حاجته، فأنت تعلم أن الأسواق كانت قائمة في زمن عمر بن الخطاب والذاهب إلى السوق عثمان، ولا أرى أن يمنع أحد يوم الجمعة الأسواق، يريد إلى انتصاف النهار قال ابن القاسم: وكذلك قال لنا مالك.
قال محمد بن رشد: إمام البلد الذي سئل مالك عن فعله أنكره، ورأى أنه قد أخطأ، هو عمر بن عبد العزيز واللَّه أعلم لأن هذه الحكاية ذكرها سحنون في نوازله من كتاب الشهادات وزاد فيها وعوقب. وقال: أراه عمر بن عبد العزيز. قال أصبغ: بل لا شك فيه أنه عمر بن عبد العزيز، وإنما رأى مالك أن فعله خطأ وأنكره، لوجهين: أحدهما: أنه لم يرَ أن يعاقب من وجد لم يشهد الجمعة، إذّ لعله قد كان له عذر منعه من شهودها يتوالى ذلك من فعله ويتكرر، فيتبين أنه قصد إلى ترك شهودها بدليل قول النبي عَلَيْهِ السَّلَامُ: «مَنْ تَرَكَ الْجُمُعَةَ ثلاث مًراتٍ مِن غَيْرِ عُذْرٍ وَلَا علة، طَبَعَ اللَّه عَلَى قَلْبِهِ بِطَابع النِّفَاقِ». والثاني: معاقبته على ذلك بربطه بسارية المسجد، إذ لم يتخذ المسجد لذلك، وإنَّما ينبغي أن يؤدب على ذلك بالسجن أو الضرب. وقوله: إنه لا يمنع السوق قبل الأذان يوم الجمعة إذا نوديِ بالصلاة، فوجب أن لا يمنع فيما قبله، واحتجاجه على ذلك بأن الأسواق كانت قائمة في زمن عمر بن الخطاب إلى حين أذان الجمعة بالحديث الذي ذكره صحيح. وباللَّه تعالى التوفيق.

.مسألة العمل بالصرف:

في العمل بالصرف وسُئل مالك عن العمل بالصرف هل يكره للرجل أَن يعمل به؟ قال: نعم، إلَّا أن يكون في ذلك يتقي الله.
قال محمد بن رشد: هذا كما قال، لأن الرِّبا في الصرف كثير لدخوله في أَكثر وجوهه، فالتخلص منه عسير، لا يسلم من عمل به، إلًا أن يتقي الله ويتحفظ فيه وقليل ما هم، ولذلك كان الحسن يقول: إن استقيت ماءً فسقيت من بيت صراف فلا تشربه. وكره أَصبغ أن يستظل بظل الصيرفي. قال ابن حبيب: لأن الغالب عليهم الربا. ولذلك استحب مالك في رسم شك في طوافه من سماع ابن القاسم من كتاب الصرف للرجل أن يصرف من التجار إن وجد صرفا ومن أَهل الصيانة.

.مسألة الاهتمام بهمِّ السّنَةِ في اليوم:

في النهي عن الاهتمام بهمِّ السّنَةِ في اليوم قال مالك بلغني أَن عيسى ابن مريم كان يقول: لا تحملوا هَم سَنةٍ على يوم، حَسْبُ كل يوم بما فيه، قيل له: وما تفسير ذلك عندك، قال: يَقول: لا تهتموا برزق السنة وطلبه ولكن يوماً بيوم.
قال محمد بن رشد: وقد مضى هذا متكرراً في الرسم الذي قبله والكلام عليه فلا وجه لإِعادته.

.مسألة الشروط في النكاح:

في كراهية الشروط في النكاح قال مالك: وأشرت على قاض منذُ دهْرِ أَنِ أنْهَ الناس ألَّا يتزوجوا بالشروط، ولا يتزوجوا إلَّا على دين الرَجلِ وأمانته وأنه كتب في ذلك كتاباً وصيحَ به في الأسواق، وعابها عيباَ شديداً.
قال محمد بن رشد: يريد الشروط اللازمة بيمين، كطلاق الداخلة، وعتق السُّرِية، وما أشبه ذلك. فهذه الشروط التي يكرهها مالك، فإِذا وقع النكاح عليها مضى ولم يفسخ قبل الدخول ولا بعده، ولزم الشرط، ووجه الكراهية في ذلك، أن المرأة قد حطَّت من صداقها بسبب الشروط، ولا تدري هل يفعل الزوج ذلك أَم لا؟ فأَشبه ذلك الصداق الفاسد. وقد روي عن سحنون لهذه العلة، أَنَه نكاح فاسد، يفسخ قبل الدخول ويثبت بعده، ويكون فيه الصداق المسمى، وللخروج من هذا الاختلاف يعقد الناس هذه الشروط في صدقاتهم على الطوع، وذلك إذا وقع الشرط في أَصل النكاح على تسمية الصداق. وأَما إذا نكحها نكاح تفويض على الشرط، فلا اختلاف في أَن النكاح لا يفسد.
وقد مضت هذه الحكاية متكررة والكلام عليها باستيعاب من هذا في هذا الرسم من هذا السماع من كتاب السلطان.